عند سور بيت جارنا، كانت تقف كل أمنياتي..
عندما كنت طفلة ..كنت أحب ان أقضي جل وقتي معه.. ابن جارنا!
ذلك الطفل المدلل الذي أضاف على ميزة الذكورة كونه وحيد والديه..
بكيت بحرقة عندما علمت أن أختي اختارت أن تذبل في عش آخر ..غير بيتنا.. في ذلك اليوم وقف عند باب غرفتي عابساً لفوات وقت اللعب في بكاء سخيف!
ولكنه أهداني بعد ذلك دباً أبيضاً بربطة حمراء في عنقه تعبيراً عن مشاركته لي أوجاعي..شعرت بالامتنان..أظنني شعرت بالزهو أيضاً ، فأنا لم أكن حظيت قط بدب جميل كالذي يزين غرف صديقاتي.. ربما لهذا السبب ما زلت أشتري كل دب أراه يزين محلات الألعاب تحت إلحاح قسري!
ربما لأن غرفتي امتلأت بالدببة الملونة اضطررت للخضوع لفكرة الصناديق الخشبية.. ربما لأنني لم أعد آمن على قدمي من المشي حافية في غرفتي أحببت جداً فكرة الشموع .. لتبقى غرفتي دائماً مضيئة.. لتضيء شموعي الصغيرة طريقي..!
* *
يختلط الماضي بالحاضر في عقلي بشكل فوضوي ..منذ خُلقت، والزمن لدي مشكلة!
أمي لا تذكر جيداً..أهي ولدتني في الصباح ..أم قبل غروب الشمس بقليل..
لا أعلم كيف يمكنها أن تمزج بين تباينين كهذين.. لا أعلم كيف يختلط في ذهني الماضي، بالحاضر! في عامي الدراسي الأول سألتني المعلمة بصوت غاضب: لماذا لم تكتبي واجبك؟
أجبتها مرتعشة: أمي كانت بالمستشفى.
سألتني بفضول غاب سببه عن عقلي الصغير آنذاك: متى كانت هناك؟
فأجبتها مرتبكة : غداً..علمت أنني وقعت في الفخ.. سمعتها كما يشبه الحلم تقول : وتكذبين أيضاً!! سأعاقبك مرتيــــن ..
لن أعيد إذلالي على الورق، يكفي أنني مررت به يوماً
يكفي ان الزمن خذلني يوماً!!
* *
كان عبد الرحمن يستمتع بفشلي المتكرر في أي منافسة تقوم بيننا .. عندما نجري، يسبقني دون مجهود.. عندما نشتبك في مصارعة ((محتبسة داخل قائمة من الممنوعات والمحظورات كلها من اقتراحي)) يطرحني أرضاً ويعد حتى الرقم عشرة بدلاً من الإكتفاء بالثلاثة تلميعاً لانتصاره الساحق!!
حتى في أسمائنا..لديه تسعة أحرف مقابل حرفين ضاقا حتى على جسمي الصغير آنذاك!!
كان يقول لي: ما أن ينطق الفرد باسمك، حتى ينتهي منه!!
أسمعتي باسم اشتقاق تحببه (تدليله) أطول منه؟؟
(ميــو) لماذا لا تطلبين من والدك تغيير اسمك؟؟
ما رأيك بغادة؟ نجوى؟ نوف ؟ حتى وإن لم تزيدي سوى حرف!!
* *
غاب عني أسبوع كامل.. كانت هذه المرة الأولى التي يفعلها دون أن يكون السبب قضاء الصيف في بلداً بارداً..
في آخر الأسبوع .. لم أستطع احتمال الإنتظار أكثر ..
ذهبت لمنزله عندما سارت الشمس نحو بحرها البعيد...
أخبرتني الخادمة أن عبد الرحمن يلعب في الطرف الآخر من الفناء..
إذن مفتون بلعبة جديدة!! سأحطمها...!
كان ذلك قراري وأنا أزداد شعور بالجرح.. ذهبت حيث قالت لأجده مع فتاة بنفس طوله وشعر يصل حتى كتفيها.. كان احمرار الشفق يملأ عيني.. كانت الغيرة تنهش قلبي.. كان ذلك المنظر طعنة لي في أنوثتي المبتدئة!!
شعرت بكرامتي تهوي فركضت بسرعة نحو الباب ولم أتأكد من أنه رآني إلا حينما سمعته يناديني لأسلم على ابنة عمه هند..اسمها هنــد ..ثلاثة أحرف!!
* *
لا احد يمكن أن يعرف كيف يسهر الصغير ألماً!!
لا أحد يشك في أننا نولد من نومنا كل يوم بطلق الحزن.. وإلا مالذي يوقظنا ياترى؟
أذكر أنني استيقظت ذلك الصباح على صوت نحيبي.. وجدتني مبللة بدموعي .. وجدت الأرض تلك الساعة مبللة بالندى .. لا أذكر الحلم الذي أيقظني ناحبة ذلك الصباح ولكنه حتماً كان هناك.. في الفناء الخلفي لمنزل جارنا!
جاء لزيارتي مصطحباً ابنة عمه..
ارتديت فستاني الجديد رغم أنني كنت اخشى تأنيب أمي لي أمامهما على ارتدائه وهي التي قد خصصته لمناسبة تهمها..إلا أنني غامرت وارتديته ، أردت ان أقابلهما بفستان جديد!
قال لي: لماذا بالأمس لم تنتظري؟ لماذا أتيتِ إن كنتِ قد أردتي العودة بهذه السرعة؟
ابتسمت بتكلف وقلت: لماذا لا نلعب؟
كنت قد نجحت تماماً في تهميشه طيلة الوقت حتى أنني قلت لها عندما أوشكا على الرحيل زورينا غداً، وثم وباستدراك مفتعل أردفت: زورانا.. أظن أن هند صدقت أنني أحببت صحبتها!! لا أعلم كيف تخلص منها ، لم أرها بعد ذلك مطلقاً!!
* *
كانت السماء سوداء ثقيلة .. في ذلك اليوم القديم.. كانت متعبة!
رغم أنني أحب المطر، إلا أنني شعرت بثقل المساء قبل أن يُقبل..
شعرت بثقل المطر!!
..تعرضت عائلة عبد الرحمن لحادث اصطدام.. في الواقع لم يحدث ما يرَوع.. كسور بسيطة في يد وكتف والده، رضوض متفرقة في جسد والدته..قدم ثقيلة يجرها عبد الرحمن!
أجرى عملية جراحية واحدة.. لم أفهم هدفها حتى الآن..أظنها لم تنجح!
بقي مدة في الفراش ..اتصلت والدته بأمي تطلب منها أن تسمح لي بالبقاء لديهم لمدة..أذكر أنني أردت أن أرفض ..ولكن ...كعادتي.. لم أقاوم رغبتي!
ذهبت ..وبقيت هناك حتى استطاع عبد الرحمن أن يحصل على ((ملهيَات)) أخرى ..ثم صرفوني!
أظنني الآن أعرف لماذا أردت ان أرفض..
كان يحبني.. تعجبه صحبتي.. يروق له حديثي.. ولكنني كنت أشعر دوماً أنه ينظر إلي كشئ فتري الاستعمال.. رغم أنه لم يكن فوق جسمي أية ملصقات!!
عرجه البسيط خلَف تعقيداً في شخصيته..أصبح حساساً للغاية
حينما أقول : أظن أن تأخري سيقلق أمي يرد بتعالي واضح: اذهبي الآن إذن!
آلمتني حساسيته كثيراً.. ولكنني كنت على الدوام أجد له قائمة من الأعذار تنسيني كل ما يوجعني..
* *
مالذي يربط النضج بالسر؟؟ بلوغي، رغم أنني لم اكن قد أكملت الثالثة عشر بعد، أحال صداقتنا الصريحة لعلاقة مختبئة خلف هاتف ما.. رسالة ما..!
أعلن جسدي في غفلة مني قراره النهائي.. طرح حياتي السابقة عني!
قبل بلوغي .. لم يزعج أمي مطلقاً كثرة حركتي ولهوي.. وما أن كبرت حتى رأت أنني بحاجة للترميم..لإعادة الصياغة!
ووفقاً للقانون الجديد..حاولت بشدة نسيان عبد الرحمن، حاولت شطب اسمه من ذاكرتي ولكنه كان عنيداً كصاحبه!
رن جرس الهاتف أثناء انهماكي في محاولة لفهم مسألة رياضية معقدة رغم ألفة أبطالها ع، س، ص .. أظنه بدا على صوتي الضجر.. كان صوته جميلاً.. هادئاً رغم حشرة عنيدة تأبى إلا أن تظهر..
قال لي : مي؟؟ يا محاسن الصدف.. ابتسمت ببلاهة، ولأنه لم يتلقى أية استجابه أعاد: مي .. أنا عبد الرحمن!
قلت بسرعة: عرفتك! لا تلمني ( الرياضيات) ستعقدني!
أجاب بعد ضحكة قصيرة: عندي حل.
-حل؟
- أليست الرياضيات تعقدك؟؟
- أوه، بلى!
- إذن.. عندي حل.
- وما هو؟
- ضعي كتابك في الحقيبة، وتعالي.
رغم أنني كنت أتساءل دوماً عن جدوى هذه المادة ..لماذا نوجع رؤوسنا بالأرقام التي لا تحمل سوى القبح ، إلا أنني في تلك اللحظة بالذات شعرت بأهميتها !!
رددت : ألا يزعجك ذلك؟؟
- - على الإطلاق، سيسرني أن أراك.
ًأطربني كثيراً قوله ، ولكنني لم أذهب .. كنت أكثر جبناً من سلوك بهذه الجرأة!
* *
يــتــبــع::